Tuesday، 19 March 2024
 

 

 

الانتخابات الليبية تحت المجهر (1)

الطريق إلى صناديق الاقتراع

د.عبدالله عمار بلوط

في البداية لابد من القول بأن الانتخابات الليبية الخاصة بالمؤتمر الوطني العام يوم 07/07/2012 كانت تاريخيةبكل ما لهذه الكلمة من معنى لأنها كانت أول انتخابات تشهدها البلاد بعد زهاء نصف قرن من الانقطاع حيث من المعلوم أن ليبيا التي استقلت عام 1951 كانت دولة دستورية برلمانية واستمرت كذلك لمدة 18 سنة قبل أن تتحول إلى جمهورية غير دستورية غير برلمانية لم يمارس الشعب فيها أي انتخابات. كذلك لابد من القول بأن هذه الانتخابات، بالرغم من بعض المشاكل الأمنية ، تمت في عمومها بصورة جيدة سواء من حيث التنظيم أو من حيث الشفافية وقد شهد بذلك القاصي والداني، وأن الشعب الليبي أثبت من خلالها للعالم أجمع أنه شعب جدير بالحياة الحرة الكريمة وقادر على ممارسة العملية الديمقراطية الحديثة بكل حرفية.  

في مقابل ذلك لابد من القول أيضا بأن الانتخابات ليست غاية في حد ذاتها وإنما هي وسيلة لتحقيق غاية أكبر ألا وهي تحقيق أكبر قدر من المشاركة الجماعية في السلطة وفي اتخاذ القرارات التي تمس حياة المواطنين سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها؛ أي تفعيل مبدأ الشورى الذي يأمرنا به ديننا الحنيف. وبعبارة أخرى، لا تتمثل الغاية في الانتظام في طوابير والإدلاء بالأصوات وفرز الأصوات وإعلان النتائج، ولكن في مدى تعبير تلك الانتخابات عن الإرادة الحقيقية للناخبين (فردا فردا) بكل أمانة؛ أي التعبير عن ما يريده الناخبون بالفعل. وفي هذا الجانب بالذات؛ أي جانب التعبير عن ما يريده الناخبون بالفعل، لا بد من القول بأن الاجتهادات والآراء حول أنجع السبل الكفيلة بتحقيق ذلك تختلف وتتباين من مجتمع إلى آخر ، ومن دولة إلى أخرى، الأمر الذي أدى إلى تعدد واختلاف الطرق المتبعة من أجل تحقيق ذلك ، وأدى بالتالي إلى اختلاف القوانين واللوائح الانتخابية في مختلف دول العالم.   كذلك، لابد من القول أن القاسم المشترك بين هذه الطرق المتعددة والمختلفة هو الادعاء بأن هذه الطريقة أو تلك هي أكثر قدرة على ترجمة أصوات الناخبين إلى مقاعد ؛ أي تقليص ما يعرف بالأصوات الضائعة التي لا يتم ترجمتها إلى مقاعد إلى الحد الأدنى الممكن ، وبأن هذه الطريقة أو تلك هي أكثر عدالة في القيام بذلك من دون انتقاص من قيمة أي صوت لأي مواطن.  

بناء على ما تقدم، فإن السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: هل عبرت الانتخابات الليبية عما يريده الناخبون بالفعل ابتدأ من قانون الانتخابات نفسه، وطريقة تقسيم الدوائر الانتخابية، وعدد مقاعد المؤتمر الوطني العام، وكيفية توزيع هذه المقاعد بين الدوائر، وبين قوائم المستقلين والكيانات، وطرق حساب الفائزين بمقاعد ، وانتهاء بطريقة إعلان النتائج ؟ لذا، من المهم أن يسأل الليبيون جميعا أنفسهم هذا السؤال وأن يسعوا جميعا (خاصة المتخصصون منهم في مثل هذه الأمور) في سبيل إيجاد الإجابات الشافية له وذلك بهدف تطوير العملية الانتخابية حتى تكون بالفعل معبرة إلى أقصى حد ممكن عما يريده الناخبون. إنه لعمري سؤال لا يستطيع فرد واحد أو جهة واحدة الإجابة عليه ولابد من تكاثف جهود الجميع من أجل ذلك خصوصا منظمات المجتمع المدني، كما أن هذا السؤال، بطبيعة الحال، سؤال متجدد وجدير بأن يُسأل وان تتم الإجابة عليه عقب كل انتخابات برلمانية.

وبالرغم من أني لست من المتخصصين في شؤون الانتخابات أو الشؤون السياسية، إلا أنني وجدت نفسي منشغلا بمحاولة الإجابة على هذا السؤال على مستوى الدائرة الانتخابية التي انتمي إليها (حي الأندلس) وذلك بسبب انتمائي إلى جيل لم يشارك قط في أي انتخابات ديمقراطية، وعدم اقتناعي أحيانا بالإجابات التي كنت أتحصل عليها عند طرحي للعديد من التساؤلات حول العملية الانتخابية. غير أن الذي لم أكن أتصوره هو أن يجرفني تيار التساؤلات إلى بقية الدوائر الانتخابية لأجد نفسي في نهاية المطاف منشغلا بمحاولة الإجابة على هذا السؤال بالنسبة لجميع الدوائر الانتخابية. كما أنني أود أن أوضح للقارئ الكريم أنني لم أكن أنوي في الأصل أن أكتب حول هذا الموضوع لولا الجدل الدائر الآن حول أداء المؤتمر الوطني العام والانتقادات العديدة الموجهة إليه وما آلت إليه الأمور في ليبيا من غياب لمؤسسات الدولة والحاجة لأن يكثف هذا المؤتمر جهوده من أجل تفعيلها وإصدار التشريعات اللازمة بما في ذلك إعادة النظر في قانون الانتخابات. وبناء عليه، سأحاول من خلال هذا المقال والمقالات التي ستليه إن شاء الله تعالى أن أسهم في جهود الإجابة على هذا السؤال انطلاقا من تجربتي الشخصية المتواضعة مع العملية الانتخابية.

فعلى سبيل المثال، وليعذرني القارئ الكريم إن اتخذت من دائرتي الانتخابية حي الأندلس بطرابلس مثالا يمكن تعميمه، عندما استفسرت عن الإجراءات والكيفية التي ستعقد بها الانتخابات علمت أن المقاعد الفردية المخصصة لهذه الدائرة 3 مقاعد من أصل 120 مقعدا على مستوى ليبيا ، وأن المقاعد المخصصة للكيانات 3 مقاعد من أصل 80 مقعدا على مستوى ليبيا ( أي 200 مقعد على مستوى ليبيا). وعندما تساءلت عن الحكمة من تحديد عدد المقاعد وتقسيمها بهذا الشكل علمت بأن لا أحد يعلم بذلك إلا المجلس الانتقالي. كما علمت أنه عند التصويت (وبحسب قانون الانتخابات) يجب على الناخب اختيار مرشح واحد فقط في استمارة الأفراد ( بغض النظر عن عدد المقاعد) ووضع إشارة واحدة فقط أمام اسمه، واختيار كيان واحد فقط في قائمة الكيانات ووضع إشارة واحدة فقط أمام اسمه. كما علمت أن عملية الاقتراع بالنسبة للمقاعد المخصصة للكيانات مرتبطة بالكيان وليس بالأشخاص المدرجين بقائمة الكيان بحسب عدد المقاعد (في مثالنا 3 أشخاص)؛ أي أن التصويت سيكون لاختيار الكيان ولا علاقة له بالأشخاص المدرجين بقائمته. وعندما استفسرت عن الحكمة من وراء تبني قانون الانتخابات لمثل لهذه الطرق سواء بالنسبة للأفراد أو للكيانات، كانت الإجابة في رأيي غير كافية لأنها اختزلت الأمر كله في مسألتين: تخفيض التكاليف و تبسيط الإجراءات بالنسبة للناخبين، وتجاهلت أي اعتبارات أخرى.  

فعلى سبيل المثال، في حالة التصويت للكيانات، تجاهلت الإجابة حق الناخب في اختيار الأشخاص المدرجين ضمن قائمة الكيان؛ أي حق الناخب في اختيار الأشخاص الذين سيشغلون المقاعد التي سيفوز بها الكيان وليس في اختيار الكيان فقط. وفي هذا الصدد، بالرغم من أنه يمكن تفهم اختيار كيان واحد من أجل الحصول على جميع المقاعد المخصصة للكيانات في دائرة ما بوضع إشارة واحدة فقط أمام اسمه ، إلا أنه لا يمكن فهم لماذا لا يحق للناخب اختيار الأشخاص الذين سيشغلون تلك المقاعد.  الجدير بالذكر هنا أن مثل هذا الحق مكفول في دول أخرى ولكنه يتطلب تنظيما أدق ووعيا أكبر من قبل الناخبين وبطبيعة الحال تكلفة أعلى. ولأن هذه هي المرة الأولي في تاريخ ليبيا كدولة مستقلة تتمكن فيها الكيانات (أو الأحزاب) من الاشتراك في الانتخابات ، وأن المؤتمر الوطني العام مؤتمر مؤقت ، فقد يكون هذا الأمر مقبولا في هذه المرحلة الانتقالية فقط ، ولكن من المهم في المستقبل أن يتمكن الناخبون من قول كلمتهم في الأشخاص الذين سيشغلون المقاعد التي ستفوز بها الكيانات.  

أما بالنسبة للتصويت على المقاعد الفردية، فقد تجاهلت الإجابة حق الناخب في اختيار شخص لكل مقعد (في مثالنا هذا: حق اختيار 3 أشخاص لشغل 3 مقاعد في دائرة واحدة وهو ما كان يمكن أن يتحقق لو تم تقسيم هذه الدائرة إلى 3 دوائر فرعية)؛ وبدلا من ذلك فإن قانون الانتخابات الليبي يكتفي بأن يصوت الناخب لمرشح واحد لشغل مقعد واحد، وأن من يشغل بقية المقاعد لا شأن له به (في مثالنا مقعدين اثنين). وعندما تساءلت عن سبب عدم تقسيم دائرة حي الأندلس إلى 3 دوائر فرعية لكل دائرة كرسي فردي والتصويت على هذا الأساس، كانت الإجابة ببساطة: من أجل تخفيض التكاليف. وعندما تساءلت عن كيفية معالجة احتمال أن تصوت دائرة انتخابية متعددة المقاعد الفردية لشخص واحد فقط بالرغم من أنه احتمال ضئيل ولكنه يظل احتمالا، كانت الإجابة العجيبة بأن هذا الاحتمال غير وارد أو شبه مستحيل. ولكن بالتأكيد إذا حدث مثل هذا الاحتمال فإن المعالجة ستكون بإجراء انتخابات جديدة (مرة واحدة على الأقل) للفصل في مصير بقية المقاعد. ومع ذلك، لابد من الإشارة هنا إلى أن مبدأ " رجل واحد .. صوت واحد" الذائع الصيت يتعلق في الغالب بمقعد واحد؛ أي أن الانتخاب يفضل أن يكون على أساس مقعد فردي واحد لكل دائرة انتخابية، وهذا المبدأ بطبيعة الحال يناسبه نظام الفائز الأول حيث يفوز المرشح الحاصل على أكبر عدد من الأصوات.

كذلك، عندما استفسرت عن عدد المترشحين الأفراد (المستقلين) في حي الأندلس أصبت بدهشة كبيرة عندما علمت بأنهم 136 مترشحا مستقلا يتنافسون على 3 مقاعد فقط! وعندما طلبت من أحد أبنائي قائمة (بالأسماء فقط) استلمت 7 صفحات كاملة. فقلت في نفسي لو طلبت السيرة الذاتية لكل واحد منهم (بافتراض أنها متوفرة أصلا) وكانت صفحة واحدة فقط، فسأستلم وثيقة مكونة من 136 صفحة؟! ... وعندما تذكرت أن عدد المترشحين بدائرة بنغازي 258 ، هتفت لا شعوريا: كان الله في عون إخوتنا في بنغازي. ولأنني لم أستطع القيام بذلك فإنني أكاد أجزم بأن أحدا لم يقم بذلك أيضا. ثم تساءلت: هل يتوقع من قام بوضع قانون الانتخابات أن يقوم الناخبون حقا بالاطلاع على وثائق بهذا الحجم ودراستها لمجرد اختيار شخص واحد؟ وهل يستطيعون ؟ ألم يكن بالإمكان تقليص هذا العدد إلى الثلث على الأقل بتبني نظام الفائز الأول وتقسيم الدائرة إلى 3 دوائر فرعية ؟ وحتى لو تم هذا الحل فإن الثلث يظل عددا كبيرا؟ إن مثل هذا الوضع بلاشك غير معقول ولابد من إعادة النظر فيه.   ثم تساءلت متحيرا: كيف سيختار الناخبون في مثالنا هذا (وأنا من بينهم) مرشحا واحدا فقط من بين 136 للتصويت له بدون هدى ولا كتاب منير ؟ وماذا سيفعل إخوتنا في بنغازي أو في غيرها من الدوائر الانتخابية في كافة أنحاء ليبيا كان الله في عونهم وعوننا جميعا؟

أخيرا، عندما استفسرت عن عدد الكيانات المدرجة في حي الأندلس، تنفست الصعداء لأن القائمة كانت تتكون من 33 كيانا فقط ! ، وقلت في نفسي: الوضع بالنسبة للكيانات يبدو أفضل لأن هذا العدد يمثل حوالي ربع عدد المترشحين الأفراد وبالتالي فإن العملية ستكون إن شاء الله أهون بكثير. كما أنني عندما تذكرت أن لكل كيان قائمة تتكون من 3 أشخاص وأن ذلك يعني 99 شخصا ( وبالنسبة لبنغازي سيكون العدد 220 )، حمدت الله أن قانون الانتخابات قد حرمنا من حق اختيار هؤلاء الأشخاص أيضا وإلا لكان لزاما علينا كناخبين ، بالإضافة إلى معلومات عن الكيانات، أن نطلب سيرهم الذاتية والبث فيها وهو الأمر الذي تبين لنا فيما سبق أن القيام به ليس بالأمر اليسير وهو ما سيزيد الطين بلة (اختيار كيانات + أشخاص). وبالاستفسار عن الكيانات المدرجة في حي الأندلس وعن برامجها ورؤاها ، تحصلت علي بعض البروشرات الدعائية لبعض الكيانات التي يبدوا أن إمكانياتها التنظيمية والمادية سمحت لها بذلك، غير أن غالبية الكيانات الأخرى بقيت بالنسبة لي ( وربما لغالبية الناخبين) مجرد أسماء في قائمة. في تلك اللحظة بالذات تيقنت أن القضية قد أشكلت وفكرت وأنا في حيرة شديدة: كيف سيختار الناخبون في مثالنا هذا (وأنا من بينهم) كيانا واحدا من بين 33 للتصويت له وبدون معلومات كافية؟ لقد أصبح الناخبون في لبيبا الآن أمام معضلة مزدوجة، معضلة تتعلق بانتخاب الأفراد وأخرى تتعلق بانتخاب الكيانات.. فكيف سيصوتون ؟

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى في المقال القادم بعنوان "كيف صوت الليبيون للمقاعد الفردية"

 

المتواجدون حاليا

101 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع